بقلم : سعيد ألعنزي تاشفين :
في علاقة إيران بالصراع بالشرق الأوسط لابد من تدقيق المواقف بعيدا عن العاطفة وعن القراءات السطحية التي تسوّق الوهم بعيدا عن تعقب أسرار حقيقة العلاقات الدّولية التي يرعاها عراب العالم الولايات المتحده الأمريكية بكثير من الدهاء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبشكل أكبر منذ سقوط المعسكر الشرقي وميلاد النظام العالمي الجديد ( أمركة القرار السري العالمي ) ؛ وعليه أسجل ما يلي :
* الدولة الفارسية قديمة جدا ولها تقاليد عريقة جدا في التعامل مع القوى العظمى منذ العهد الساساني إلى الأن ، وبالتالي شرعيتها التاريخية جعلتها تراكم الكثير من الخبرة البراغماتية في تدبير النزاعات الدولية منذ أزمنة غابرة وإلى الأن وبأشكال مختلفة لهدف واحد ثابت ؛ ولذلك فمنطق الفعل الصفوي لا يمكن أن يعادي عراب العالم بأي شكل من الأشكال في عمق التحالف على نقيض ” الحرب ” المعلنة شكلا خدمة لأجندات أخرى غير مصرح بها .
* الدولة الفارسية لها عقيدة راسخة وفق أصول الإيمان الشيعي الذي يشكل سندا صلبا في علاقاتها مع غيرها من الدول ، حتى إنه في التاريخ الراهن إبان الحرب ضد العراق ، المسنود حينها من الولايات المتحدة الأمريكية ، كانت إيران تتعامل بيقظة مع الإتحاد السوفياتي ومع باقي القوى العظمى ذات الصيت في صناعة القرار العالمي خاصة الصين والهند .
ورغم الدعم السخي من ” الحلفاء ” ( هم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ) لصالح عراق صدام حسين إلا أن إيران صمدت كثيرا حتى انتهت الحرب وفق رزنامة التخطيط الأمريكي المسبق ، وثبت فيما بعد خسارة العراق واستفادة إيران بفضل ” الخيانة ” الأمريكية للعراق ، وهي حقيقةً جزء من معاهدة مضمرة بين طهران وواشنطن انتهت بتقديم العراق على طبق من ذهب للصفويين بإعدام صدام حسين فجر العيد الأبراهامي بتواطؤ بين الولايات المتحدة وبلاد فارس بتنفيد من مقتدى الصدر لصالح عراق جديد بشروط كربلاء الشيعة انتقاما لمقتل الحسين .
* العلاقات بين إيران ، كنظام صفوي توسعي بخلفية عقائدية شيعية وبأهداف كبرى في خضم سعيها إلى تصدير الثورة ، والولايات المتحدة الأمريكية ذلك ” الطاغوت ” وقوة ” الإستكبار ” على حد قول الصفويين أنفسهم ؛ ليست علاقات صراع بالمعنى البسيط كما يسوَّق له إعلاميا ، بل علاقات وطيدة من الأسفل منذ التحالف المضمر ضد « الإلحاد الشيوعي » السوفياتي في منطقة القوقاز وقزوين وأفغانسان تحديداً حيث بفضل المقاومة الإسلامية ( حركة المجاهدين الأفغان التي تحولت فيما بعد إلى حركة طالبان الإرهابية !! ) ثمت إزاحة الإتحاد السوفياتي وانتصرت الولايات المتحدة الأمريكية في إعادة ترتيب أوراق الشرق الأوسط وقزوين والقوقاز جيو.
– استراتيجيا كما خطط لذلك البانتاغون الذي تحالف تاريخيا مع نظام ولاية الفقيه . لذلك كل انجراف نحو اعتماد ما يروج من بروباغوندا لإشاعة الحرب الإيرانية – الأمريكية على أرض غزة سيذهب في الإتجاه المخالف لحقيقة ما يقع بين أمريكا ، التي تدير العالم بالعقل الإستراتيجي ، وإيران ، ذات درجة عالية من الذكاء الإستراتيجي أيضا ، في معاملةٍ بينهما ظاهرُها نقيض باطنها ؛ وبالتالي هما معا طرفي معادلة جيو – استراتيجية ذكية لا يفهمها إلا من يتجاوز سياجات ما يسوق له إعلاميا من طرف الإعلام هنا وهناك سواء الأمريكي – الإسرائيلي – الأروبي أو الشيعي الصفوي – حزب الله ، نحو قراءة تقارير البنتاغون حيث يخطَّط للعالم من علب مغلقة للبحث العلمي الإستراتيجي الذي يفكر لوزارة الخارجية الأمريكية وللبنتاغون .
* ٱيات الله الخميني عندما أعلن عن الثورة الإيرانية الإسلامية يوم 7 يناير 1978 والتي نجحت في الإطاحة بالنظام الملكي مع ” الشاه محمد رضا بهلوي ” الذي كان عصرئذ قد رجع من فرنسا في منفاه بقرية ” نوفل لوشاتو ” تحت حماية دقيقة من المخابرات الفرنسية أولا ثم الإنجليزية ثانيا لحظة انتقاله مِن على مثن الطائرة الغربية وبحضور عناصر من الموساد الإسرائيلي من فرنسا نحو إيران قصد إعلان الثورة ” الإسلامية ” التي وضعت الحجر الأساس لنظام يوصف في الأدبيات العقدية والإيديولوجية ب ” نظام ولاية الفقيه ” ؛ ومن ثم حصل التوافق استراتيجيا وبشكل سري على توحيد الصف في تناول القضايا الشائكة في العالم رغم ما يبدو من بريق خلاف ترعاه الماكينة الإعلامية الأمريكية عن قصد ولأهداف أهمها تفكيك العالم الإسلامي السّني كما حصل مع هبوب رياح الفوضى الخلاقة كما نظر لها برنارد لويس وكسينجر منذ عقود ونفدها أولا صقور البيت الأبيض من طينة رامسفيلد وديكٓ تشيني وكونداليزا رايس وكولن باوول بإسقاط نظام صدام حسين .
وثانيا كما نفدها الجيل الثاني من الصقور مع أحداث ما يسمى إعلاميا بالربيع العربي الذي جعل محور واشنطن – تل أبيب يقدم حسني مبارك قربانا رغم كونه الحليف الأول ( العميل الأول تكتيكيا ) لمحور واشنطن – تل أبيب ، وكذا التضحية بزين العابدين بنعلي الإبن البار لبورقيبة وحليف الإيليزي .
وكل هذا بشمال إفريقيا في كل من مصر وتونس مع ثورة الياسمين التي أشعلها شكلا البوعزيزي لكن عمقا أنتجها العقل الإستراتيجي الأمريكي من ردهات البحوث العلمية الإستراتيجية ، مع التضحية باليمن بعد الحسم مع رئيسها على عبد الله صالح بهدف عزل المملكة السعودية التي تحاصَر هنالك من طرفين هما إيران من جهة والحوثيين ( إيران أخرى ) باليمن من جهة ثانية ضمن الحدود المباشرة للمملكة والتي رضخت فيما بعد لابتزاز دونالد ترامب فقدمت عمولات ضخمة من أجل إعادة ترتيب حدودها بدعم أمريكي مباشر .
في حين ، على نقيض كل ذلك ، ظلت حدود إيران ٱمنة جدا رغم صعوبة المعادلات في منطقة قزوين بمحاذاة روسيا بمنطق أخر مضبوط إيقاعه ومنحاه نحو حرب بوتين ضد كلنسكي المخطط لها كذلك من طرف الناتو تحت إمرة العام سام والتي لن تنتهي قبل إعادة فرملة الإقتصاد العالمي من أروبا لصالح اقتصاد النافطا ( ألينا ) لصالح واشنطن في اتجاه الصين ” المحايدة ” حيال إيران – غزة .
* منذ الثورة الإسلامية المدعومة أمريكيا ضد ” الإلحاد ” السوفياتي ، لم يسبق لإيران ، رغم قوة خطابات التهديد والوعيد ، أن دخلت في مواجهة عسكرية ضد ” قوى الإستكبار ” على حد قول نظام ولاية الفقيه ، بحيث يسجل التاريخ الديني للشيعة مواقف ذكية ( دهاء سياسي بارز ) لإيران في علاقتها مع ” الطاغوت ” الأمريكي من أجل تفادي كل مواجهة محتملة .
لهذا نجد الطاغوت نفسه هو من قدم العراق على طبق من ذهب لإيران مباشرة بعد إعدام مقتدى الصدر ومعه قوات الكوموندو الأمريكية لرئيس العراق السني صدام حسين صبيحة عبد الأضحى الذي لا يخلوا من دلالات قوية في الأنتربولوجيا الدينية لكونه العيد الذي يجمع اليهود بالمسلمين وبالمسيحيين بمرجعية أبراهام عليه السلام وقصة الدبح العظيم ؛ ولسان حال حلف طهران – واشنطن – تل أبيب يقول :
” اليوم نضحي بصدام حسين على غرار تضحية إبراهيم بإبنه إسماعيل الذي قال ” يا أبتي إفعل ما تؤمر ” / الأية ، وهو ما قالته طهران لواشنطن أيضا ضدا على العراق الذي شكل نمودجا لحضارة إسلامية سّنية ( العالم السني مستهدف على نقيض العالم الشيعي ) إنطلقت منذ الإنتقال من دمشق نحو بغداد ومن الأمويين نحو العباسيين في سياق كان فيه الشيعة الصفويين يخططون ضدا على العراق وكأن سفك دم صدام حسين مأساة كربلاء جديدة ضد السنة بدعم أمريكي مضمر .
وعليه نجح التحالف السري الصفوي – الأمريكي – الإسرائيلي على إعادة تقسيم بلاد الشرق الأوسط والشرق الأدنى ( من القدس / أورشليم نحو مكة ثم قُم الشيعية = سايكس – بيكو جديدة ) بين إسرائيل التي تفعل ما تشاء بالمنطقة وإيران التي أخذت العراق واليمن على طبق من ذهب حتى كادت أن تأخذ أجزاء من أراضي المملكة السعودية لولا انبطاح محمد بن سلمان رائد الحركة الإصلاحية بدعم أمريكي عبر الإستسلام لإملاءات واشنطن مقابل درء إيران عن دعم الحوثيين باليمن ضد الحدود السعودية المتوترة والتي أمّنتها إيران عبر اللاسلم واللاحرب برعاية خفية بعيدة – قريبة من واشنطن .
* أخطر نتيجة مؤلمة استنتجها ( بل وجب إستنتاجها ) زعماء حماس في هذه الحرب المعلنة إسرائيليا منذ شهور هي أن كل الصراخ الذي طالما عبر عنه حزب الله من خلال الخطابات الحماسية لحسن نصر الله ( ظاهرة صوتية تخدم بروباغندا دقيقة لصالح البنتاغون ) ، وخلفه نظام ولاية الفقيه ، مجرد حملات شفهية مذهبية لا ترقى إلى مستوى تحالف استراتيجي على أساس مذهبي – عقدي ، والدليل هو أنه بعد مضي شهور من حرب إبادة ضد النساء والأطفال بغزة الضحية الاولى لإيران التي لم تحرك عتادها إلا في سياق تلطيف الفضيحة بالتهديدات الشكلية وهو نفسه ما وقع مع حسن نصر الله أيضا الضحية الموالي .
والضحية هي غزة – حماس التي حضيت بالخراب من خلال عشرات ألاف من القتلى والجرحى والمعطوبين في مضمار تغيير الخريطة الديموغرافية لغزة ، علاوة على دمار مطلق في البنيات التحتية أمام أنظار إيران وحزب الله لدرجة حصل انتظار تدخل جنوب إفريقيا لتسجيل دعوى مستعجلة بالقضاء الجنائي الدّولي ضد إسرائيل ، وبعد حسم ميزان القوة ضد حماس ( حركة المقاومة الإسلامية ) لا شك أن استئصال حزب الله هو الهدف الموالي بتطهير لبنان من وجود الأيادي الفارسية من خلال حزب الله الذي سيتخرب بدءا بإغتيال أمينه العام خادم النظام الفارسي ، ثم مواصلة توحيد لبنان ضدا على أجندات الشيعة .
وبناء عليه لن يكون ثمة من أفق للحرب ضد غزة إلا إرجاع قطاع غزة إلى زمن العصر الوسيط بغية شرعنة تحرك الدول الهشة للمطالبة بالجلوس إلى المفاوضات في سقف حدود 1967 لصالح الدولتين كما ترتضي ذلك تل أبيب التي تخطط لإسرائيل العظمى وفق مرجعيات التلمود لصالح شعب الله المختار بأرض الميعاد في حضرة أورشليم مناط مورد النزاع الجيو – بوليتكي الذي تساهم فيه إيران بشرط دعم التشيّع ضد الجناح السني بالعالم الإسلامي وفق مخططات ثورة نظام ولاية الفقيه التي تؤمن بتصدير الثورة .
ختاما مفروض على كل عقل راجح تجاوز كل ما يسوَّق له إعلاميا ، سواء من الإعلام الغربي أو من إعلام الشيعة ، ذلك أن الإعلام جزء من معركة كبرى تاريخية – ثقافية – هوياتية – إقتصادية – حضارية – استراتيجية تخدم رهانات دقيقة بعيد عما يروج من « حقائق » في الإعلام وفي ردهات الأمم المتحدة . وبالتالي فالحقائق تصنع في رداهات البنتاغون ومعاهد البحث الإستراتيجي ومختبرات إدارة الأزمات الدولية بالولايات المتحدة الأمريكية ، وليس حتما في حلقات الإعلام الغبي كما يرُوج في كثير من قنوات التحليل الموجَّه والتضليل الإستراتيجي الممنهج تحت شعارات ” الله أكبر ” وعاش ” حسن نصر الله ” وليسقط الطاغوت والصهيونية .
+ توجيه : لقد كتب ميشل فوكو كتابأ غير مشهور مباشرة بعد نجاح الثورة الإسلامية عام 1978 تحت عنوان ” إيران الثورة باسم الله ” ؛ لمن له الرغبة في تعميق فهم منطق اشتغال نظام ولاية الفقيه ، كما يمكن قراءة كتابات لويس برنارد وكوشنير لفهم الإشارات .