ديناميات الاحتجاج في مغرب 2025: بين غضب “الجيل الرقمي” وصوت الهوامش المهمشة

بقلم الأستاذ نبيل شيخي​

في لحظة سياسية واجتماعية دقيقة، شهد المغرب في الفترة الأخيرة حراكاً احتجاجياً مزدوجاً كشف عن صدوع عميقة في بنية العقد الاجتماعي القائم.

لم تكن هذه الاحتجاجات متجانسة، بل عكست واقعين متوازيين يتشاركان الشعور بالتهميش ولكن يختلفان في لغة التعبير وأدواته ومطالبه المباشرة.

فمن جهة، تحركت هوامش المغرب المنسية مطالبة بالحقوق الأساسية والكرامة الإنسانية، ومن جهة أخرى، نزل ما يسمى بالجيل الرقمي (Gen Z) إلى الفضاءات العامة والمنصات الافتراضية، مسلحاً بأدواته الرقمية، للتعبير عن غضب وجودي مرتبط بانسداد الأفق السياسي والاقتصادي.

إن فهم هذه الديناميكية المزدوجة يتطلب تجاوز التحليل السطحي للأحداث، والغوص في البنية السياسية والاجتماعية التي تشكلت معالمها بعد انتخابات 2021، والتي أنتجت واقعاً يرى فيه قطاع واسع من المغاربة أنفسهم خارج دائرة التمثيل والفائدة.​

إن تحليل ظاهرة الاحتجاج في المغرب، كما بيّنت كتابات باحثين في علم الاجتماع ، لا يمكن فصله عن طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع وآليات الوساطة السياسية.

تاريخياً، كانت الدولة تدير التوازنات عبر شبكة من المؤسسات الوسيطة كالأحزاب والنقابات والأعيان المحليين، والتي كانت تقوم بدور امتصاص الصدمات وتأطير المطالب. لكن ما نشهده اليوم هو تآكل متسارع لدور هذه الوسائط.

فانتخابات 2021، بما أفرزته من “حكومة وبرلمان أعيان” يهيمن عليهما منطق المصالح الاقتصادية أكثر من الرؤى السياسية، عمّقت الشعور بـ”انسداد الأفق السياسي”.

لقد وجد المواطنون، وخصوصاً الشباب، أنفسهم أمام مؤسسات منتخبة عاجزة عن تقديم إجابات حقيقية للتحديات التنموية الملحة، بل وفي كثير من الأحيان، متورطة في مظاهر فساد أدت إلى تآكل الثقة في العملية الديمقراطية برمتها.

هذا الفراغ في التمثيل السياسي هو الذي يدفع بالاحتجاج إلى الشارع مباشرة، في مواجهة غير مؤطرة مع السلطة.​

في هذا السياق، تكتسب احتجاجات الهوامش والمناطق القروية شرعيتها من واقع التنمية غير المتوازنة.

مطالبها ليست ترفاً سياسياً، بل هي صرخة من أجل الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة: الماء، الصحة، التعليم، والبنية التحتية.

هذه الحراكات هي التعبير الأكثر صدقاً عن فشل النموذج التنموي في الوصول إلى الفئات الأكثر هشاشة، وهي استمرار منطقي لحراكات سابقة أظهرت أن صبر الهوامش، فئاتٍ ومجالاً، له حدود.

إنها احتجاجات “الحق في الوجود” التي تضع الدولة أمام مسؤوليتها الدستورية والأخلاقية في ضمان العدالة المجالية وتوزيع ثمار النمو بشكل عادل.​

على الضفة الأخرى، يقف الجيل الذي وُلد ونشأ في العصر الرقمي.

هذا الجيل لا تحركه فقط المطالب المادية المباشرة، بل تحركه أيضاً قضايا الهوية والكرامة والاعتراف والتمثيل.

إنهم يرون انسداد الأفق بشكل مختلف؛ فهو ليس مجرد غياب للبنية التحتية، بل هو غياب للمستقبل نفسه.

شعورهم بالاغتراب عن الخطاب السياسي الرسمي وعن المؤسسات التقليدية يدفعهم إلى خلق فضاءاتهم الخاصة للتعبير والتنظيم عبر منصات التواصل الاجتماعي.

هذه المنصات حررت خطابهم من الرقابة التقليدية ومكنتهم من بناء هوية احتجاجية أفقية عابرة للحدود الجغرافية، سريعة الانتشار والتعبئة.

غير أن تعامل السلطات مع هذا الحراك بمنطق أمني محض، عبر المنع والتوقيفات، يكشف عن سوء فهم عميق لطبيعة هذا الجيل ودوافعه، ويحول رغبته المشروعة في التغيير والمشاركة إلى مواجهة مفتوحة تزيد من منسوب الاحتقان.

​إن التقاء صرخة الفئات والهوامش المهمشة مع غضب الجيل الرقمي ليس مجرد صدفة، بل هو مؤشر على أزمة شاملة.

فالأولى تعبر عن فشل الدولة في وظيفتها التوزيعية الكلاسيكية، والثانية تعبر عن فشلها في وظيفتها التمثيلية والاندماجية الحديثة.

كلا الحراكين، رغم اختلافهما، يشيران إلى الحاجة الماسة والمستعجلة لجواب يتجاوز المقاربة الأمنية الضيقة. ذلك أن القمع قد ينجح في تفريق المتظاهرين مؤقتاً، لكنه لا يحل الأزمة، بل يؤجل انفجارها ويزيد من تعقيدها. المغرب اليوم في حاجة ماسة إلى عقد سياسي واجتماعي جديد، عقد يعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة.

هذا العقد يجب أن يرتكز على مدخل سياسي حقيقي يعيد الاعتبار للعمل السياسي الحزبي الجاد، ويكفر دون لف أو مناورة عن خطايا انتخابات 2021، ويفتح المجال أمام نخب جديدة قادرة على حمل هموم المجتمع، ومدخل تنموي يضع حداً للتفاوتات الصارخة ويجعل من الكرامة والعدالة الاجتماعية أولوية قصوى.

إن تجاهل هذه الأصوات المتصاعدة، سواء أتت من قرية نائية أم من فئة هشة داخل الحواضر، ام من هاتف شاب غاضب في قلب المدينة، هو مقامرة بمستقبل الاستقرار الذي لا يمكن أن يدوم إلا على أسس متينة من الديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية.

الأخبار ذات الصلة

المزيد من الأخبار جار التحميل...لا يوجد المزيد من الأخبار

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *