بقلم: أبو سراج
من المثير للدهشة أن نسمع، بين الفينة والأخرى، أصواتًا تتحدث عن الديمقراطية واحترام القوانين، وهي نفسها التي ظلت لعقود تمسك بمفاصل القرار داخل النقابة الوطنية للصحافة المغربية، تتصرف وكأنها الوصية على تاريخها، والناطقة الرسمية باسم ضميرها الجمعي.
لكن السؤال البسيط الذي يفرض نفسه هنا: أين كانت هذه الغيرة على القانون حين كان أصحابها يتولون تدبير الشأن النقابي؟
لماذا لم نسمع آنذاك عن “لجنة الحكامة والمراقبة المالية” أو عن “هيئة محاسباتية” تتفحص كيفية التسيير والإنفاق؟
ألم تكن الشفافية واجبًا بالأمس كما هي اليوم؟ أم أن ميزان العدالة لا يعمل إلا عندما يُسحب الكرسي من تحت أقدام البعض؟
من السهل جدًا أن تُرفع الشعارات بعد مغادرة المنصب، وأن يتحول من كان في موقع القرار إلى معارض لديمقراطية تداولته، ولكن من الصعب أن يكون المرء شجاعًا بما يكفي ليقبل بمنطق التداول، ويُقرّ بأن الدوام لله وحده، وأن النقابة ملك لجميع الصحافيين لا لحلقة مغلقة من “الرواد” الذين لم يستوعبوا بعد أن الزمان تغيّر، وأن الكراسي لا تورَّث.
اليوم، هناك من يتحدث وكأن فقدان عضوية في المكتب التنفيذي أو رئاسته هو نهاية العالم، وكأن النقابة بدونهم على وشك الانقراض!
وهنا يكمن جوهر المفارقة:
كيف يمكن لمن يدّعي الدفاع عن الديمقراطية أن يرفض نتائجها حين لا تكون لصالحه؟هل الديمقراطية تُحترم فقط حين تمنحنا المناصب، وتُلعن حين تسحبها منّا؟هل نعيش في نقابة أم في واحدة من جمهوريات إفريقيا التي لا يغادر فيها الرؤساء كراسيهم إلا على محفات الانقلابات؟
ثم لنسأل بصراحة: هل اليوم فقط اكتشف البعض أن عبد الكبير أخشيشن “ما مزيانش”؟
هل صار فجأة “باحثًا عن الكراسي” بعدما أفنى سنوات وهو يشتغل في الظل، يُمهّد ويناضل، فيما آخرون يجنون الثمار ويُصفق لهم الإعلام؟أي منطق هذا الذي يحوّل رفاق الأمس إلى خصوم اليوم لمجرد أنهم نجحوا في إعادة ترتيب البيت النقابي على أسس جديدة؟
عبد الكبير أخشيشن لم يسقط فجأة على النقابة، بل هو ابنها الشرعي، يعرف دهاليزها، وعايش مراحلها، وكان شاهدًا على فتراتٍ من الريع النقابي والامتيازات غير المستحقة التي راكمها البعض باسم النضال.
فلماذا كل هذا التحامل على تجربة جاءت لتُصحح الاختلالات لا لتقصي أحدًا؟
أليس الأجدر بمن يعتبر نفسه “من الحرس القديم” أن يُساند ويؤطر، لا أن يعرقل ويُفشل؟أليس من العيب أن تُستعمل الشرعية التاريخية كعصا لتكسير مجهودات الجيل الجديد من الصحافيين، أولئك الذين كبروا في الميدان وليسوا “وليدات صغار” كما يحلو للبعض أن يصفهم؟لكن، أين كان هؤلاء حينما كان الصحافيون يعانون؟لقد عرّت جائحة كورونا سوأتهم، وكشفت حجم الهوة بينهم وبين المهنة التي يتحدثون باسمها اليوم.
حينها تُرك الصحافيون يواجهون مصيرهم في هشاشة اجتماعية قاتلة، دون حماية، دون دعم، دون التفاتة، بينما ظل “المناضلون القدامى” يتنعمون في المكاتب الوثيرة ويتقاضون تعويضات سمينة من مجالس لم تقدّم للصحافيين سوى السراب.
مجالس تُهدر ميزانياتها في الخوا الخاوي، وإن اطلعنا على تقاريرها المالية لَصُدمنا من هول المصاريف في مقابل غياب أي أثر ميداني أو مكسب ملموس للعاملين في المهنة.لو أن هؤلاء عملوا آنذاك على تحصين المهنة وتحسين أوضاع الصحافيين، عوض التهافت على الكراسي والتعويضات، لما وجد عبد الكبير أخشيشن ومن معه أنفسهم اليوم يقاتلون من أجل أبسط الحقوق المهنية.
هؤلاء الرجال اليوم يشتغلون على ملفات حقيقية تمسّ الصحافي في معيشه اليومي، في وقتٍ تُعتبر فيه فئة الصحافيين الوحيدة تقريبًا التي لم تستفد من أي زيادة في الأجور خلال عهد هذه الحكومة، بينما شملت الزيادات الأساتذة والأطباء والموظفين في معظم القطاعات.فمن يتحمل مسؤولية هذا التهميش إن لم يكن أولئك الذين تقاعسوا بالأمس وتفرغوا اليوم لتصفية الحسابات؟ذنوب الصحافيين عليكم، ويوم الحساب آتٍ لا محالة.
الحقيقة التي يحاول البعض تجاهلها أن النقابة اليوم ليست حائطًا قصيرًا يمكن تسلقه بالبيانات الانفعالية أو بتدوينات الغضب.
هي مؤسسة صلبة، تقودها إرادة جماعية، يتقدمها رجال ونساء تمرّسوا بالعمل النقابي، يضعون مصلحة الصحافيين فوق الحسابات الشخصية، ويؤمنون أن الإصلاح لا يتم بالصراخ من الخارج، بل بالعمل من الداخل، وبمراكمة الفعل لا الادعاء.أما أولئك الذين لا يطيقون التداول على المسؤولية، ويحنّون إلى زمن الامتيازات، فعليهم أن يتذكروا أن مرحلة “الزعيم الأبدي” انتهت، وأن زمن المحاسبة والشفافية قد بدأ، ولو تأخر قليلًا.فالتاريخ لن يرحم من يسعى لإغراق السفينة لأنه فقد مقعد القيادة.
النقابة الوطنية للصحافة المغربية ليست في أزمة كما يروّج البعض، بل في مرحلة تطهير وتجديد، تستوجب دعمًا من الجميع، لا نواحًا على أطلال الماضي.
فمن أراد أن يُسهم في البناء، فالأبواب مفتوحة، ومن اختار الانسحاب والتشكي، فليتحمل مسؤولية موقعه أمام الزملاء والتاريخ. النقابة الوطنية للصحافة المغربية مستمرة رغم مكائد الكائدين من أبنائها العاقين، وستواصل عملها خدمةً للوطن أولًا، وللصحافيات والصحافيين ثانيًا. ومن يعتقد أنها “واقفة عليه”، فهو واهم تمامًا.









